السبت، 25 يناير 2020

حين لاتظن الشيء مظنة الشيء

حين لاتظن الشيء مظنة الشيء

في صباح يوم بارد وقف رجل في إحدى محطات المترو في العاصمة الأمريكية واشنطن وبدأ يعزف الكمان.
عزف مقاطع مختارة من أرقى مقطوعات موسيقى العبقري باخ مدة حوالي 45 دقيقة.
خلال ذلك الوقت مر حوالي 1100 شخص في محطة المترو، معظمهم في طريقهم إلى العمل.
مرت ثلاث دقائق ، تباطأ رجل في منتصف العمر في سيره وتوقف بضع ثوان وهو يستمع لمقطوعة الموسيقى ومن ثم هرع للحاق بالوقت..
بعدها بدقيقة ، تلقی عازف الكمان الدولار الأول ، كانت امرأة ألقت له المال بدون أن تتوقف وواصلت المسير!
شخصٌ استند إلى الجدار للاستماع إليه لبضع دقائق، ثم نظر إلی ساعته وبدأ المشي مرة أخرى وكان من الواضح أنه قد تأخر عن العمل..
كان من أبدى أكبر قدر من الاهتمام طفل عمره 3 سَنَوات، كانت والدته تحثه علی السير لكنه توقف لإلقاء نظرة على عازف الكمان. وأخيراً ، واصل الطفل المشي، مديرًا رأسه طوال الوقت، وكرر هذا الأمر العديد من الأطفال الآخرين.
جميع الآباء، دون استثناء، أجبروا أطفالهم على مواصلة السير وجميع الأطفال دون استثناء حاولوا التوقف والاستماع.
في 45 دقيقة من عزف الموسيقى:
لم يتوقف ويستمع لمدة من الوقت سوى 6 أشخاص، من الذين مروا حوالي 20 قدموا له المال، ثم واصلوا السير بوتيرة طبيعية..
كانت نهاية 45 دقيقة من العزف مبلغ 32 دولار.
عندما أنهى العزف وران الصمت، لم يلاحظ ذلك أحد، لم يصفق أحد!
لا أحد لاحظ أن عازف الكمان هذا هو "جوشو بيل" واحد من اكبر وأشهر الموسيقيين الموهوبين في العالم.
وأنه عزف مجموعة من القطع الموسيقية الأكثر تعقيدًاّ.
وأنه يعزف علی كمان قيمته 3.5 مليون دولار.
وأنه قبل يومين من لحظة عزفه في مترو الأنفاق، بيعت بطاقة الدخول لحفلته في أحد المسارح في بوسطن بمتوسط مائة دولار.
إذا لم يكن لدينا لحظة للتوقف والاستماع إلى واحد من أفضل الموسيقيين في العالم يعزف أفضل موسيقى كتبت لآلة الكمان!
فكم من الأشياء حولنا أثناء مسيرة الحياة تفوتنا ونحن لم نستمتع بها؟

****

ذات مرة كان الدكتور يحيى ولد حامدن رحمه الله ، يركب مع صديق له ليوصله ، وقرب إحدى الثانويات شاهد الرجل فتاة من أقاربه فحملها معهما ليوصلها.
كانت الفتاة تحمل دفترا بيدها ، سألها الدكتور يحيى عن دفترها ماذا يحوي؟
أجابت فتاة الثانوية: ما هُ ش تعرفو هذا ينكالو (Math) الرياضيات!!..

****

في اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة بالمملكة العربية السعودية تناول الكلام ممثلو الوفود وكان الأستاذ برهام جوب رحمه الله ، ممثل السنغال ورئيس وفدها ينصت دون أن يتكلم.
وحين وصله الكلام قال ممثل السعودية ورئيس الجلسة أيها الإخوة سأعطي الكلام لممثل السنغال لكن ارى ان نترجم له ماجرى لأنه قد يكون لايعرف العربية ولم يعِ مادار من نقاش..
وحين استلم برهام جوب الكلام حمد الله واثنى عليه ثم قال ضاحكا:
وهل أفنى شبابي غيرُ هِر ؟!
تعاطيت العربية وليدا وعلّلت بها صبوحا واغتباقا، وقيض الله لي ذلك الشيخ الشنقيطي -أحمد محمود ولد الرباني- الذي كان يمسك بلساني لأنطق الحاء ..
ثم واصل جوب وأتى بالعجب العجاب ..
ذهل الحضور من فصاحة الرجل وانطلاق لسانه
وقام له رئيس الاجتماع عن مكانه وأقسم ألا يدير الاجتماع غيره.

****

يقول الشيخ ولد مكيّن رحمة الله عليه: "أفحمت في حياتي مرة واحدة" ، وذلك في محصر أمير اترارزة ، وكنت حينها فتى حدثا.
ففي رحلة للمحصر شتاء إلى بئر(انْوَاكِلْ) ، نزلنا للمبيت في المنطقة المعروفة بابّيْرَاتْ تَاگنَانتْ، وكان من عادة أهل المحصر النوم ضحى، لكنني ذلك الصباح لم أنم، ولم يستيقظ معي أحد، نهضت وذهبت أستطلع المكان، فشاهدت خيمة غير بعيدة فتوجهت إليها عسى أن أجد عند أهلها شايا صباحيا.
حين وصلت كان هناك رجل جالس في شق الخيمة يَكْصَرْ تِيرْزَه مَنْ أَرْشَ، وبين أَرْكَايْزْ أَشْوَيْبْتَيْنْ إحداهما بين يديها مواعين شاي وَالْمَغْرَجْ طَالَعْ، سلمت ـ وكنت أظاهر دراعتين بيضاء وزرقاء (امغربي)، فرد علي الرجل السلام، ورفع بصره إلي، وقال:
أَنْتَ مَانَكْ هُوَّ لِديچبي الْمَذْكُورْ امغني ورَگاصْ فَالْمَحْصَرْ؟
قلت له: آنَ إگبَالْ
طَرْحَتْ أَشْوَيْبَّه الْكِسَانْ عَنْ أطَّابْلَه، وَأكْفَاتْهَ أَفْعَبُّونْهَ ءُگامَتْ أَتْرَدِّيهَ، وَأتْكَرَّرْ لَازِمَة:
دَانَ ـ دَانَ ـ دَانَ..
تفاعلت معها ودخلت الخيمة، وقلت لها گولي:
عَنْدِ حَالَ هَوْنْ أَفْلَبْتَيْتْ :: مَا يَعْرَفْهَ يَكُونْ آنَ
وَنْطَاوِ بِيهَ زَادْ أَعْيَيْتْ :: سَاعَتْ لَكْطَاعْ الْوَزَّانَ

رفع الرجل رأسه مباشرة، وقال:
انگدْ انگاطَعْ وانْحَانِيكْ :: كِيفْ الْوَزَّانَ تِتْحَانَ
وَانگدْ انرادِفْ زَادْ أَعْلِيكْ :: أَلا من ذَاكْ إبْغَيْتْ آنَ

قال الشيخ: فاجأني الرجل بعد أن ظننت أن لا شأن له بالفن، وأني قد استفردت بالجماعة، فأفحمتني سرعته وجودة قوله، وجلست أنتظر البراد الأول، وتركت له المجال.

****

ذات مرة خلال (رالي باريس دكار) ضل سائق دراجة في "آوكار لبكم" وانتهى المطاف به في قرية "عين السلامة".
استقبله المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه رحمه الله ، وأكرم نزله ، جلسا في الفضاء الرحب في تلك القرية الوادعة النائمة بين أحضان الرمال.
جلسا على حصير من النيلون ، كان محمد ولد مولود يلبس دراعة خفيفة من الشگة ويلف لثاما من توبيت حول رقبته.
سأل محمد ولد مولود الفتى الفرنسي من أي مدينة أنت؟
فأجاب: من بواتييه
قال محمد: أنت إذن من وسط غرب فرنسا من منطقة بواتو شارنت..
تلك المنطقة تعتبر من المناطق المشمسة فى فرنسا وتغطي جزءا مركزيا من السهل الساحلي المطل على المحيط الأطلسي ..
إنها تقع إلى الغرب من أعلى ليموزين على تخوم الهضبة الوسطى عند حواف التلال المتموجة..
تلك المنطقة مناخها معتدل على الرغم من الصقيع فى الشتاء الذى يكون أقل صرامة على الساحل.
فى الجزء الجنوبي من تلك المنطقة تقع الأراضي الصالحة لزراعة القمح والشوفان ، كما تزرع فيها البطاطا والتفاح و، تقوم كروم العنب على نطاق واسع حيث تنشط صناعة الكونياك والنبيذ المحلي و صناعة الأجبان.
وفى الشرق منها تقع مقاطعة دوكس سفرس "Deux-Sèvres " التي توجد بها بلدية "Mauzé-sur-le-Mignon " الوادعة ، التي ينحدر منها الرحالة (رينيه كاييه - René Caillié)، المعروف عندنا هنا بـ"ول كيج النصراني" أول رحالة غربي تطأ قدماه أرض تمبكتو...
ظل الفتى الفرنسي فاغرا فاه لايحير جوابا ..
كان يسمع عن قصص الجن سكان مهامه الصحراء ، ظن نفسه في حلم أو تخطفته الجن ..
إنه أمام رجل صحراوي توحي ملامحه بأنه لم يبرح تلك الصحراء رغم أناقة لا تخطئها العين ، ملامحه صارمة عيونه ثاقبة النظرات يتدلى شاربه الأبيض إلى ذقنه الحليق صوته متهدج به بحة جميلة ، يتكلم الفرنسية كما يتكلمها الفرنسيون الأقحاح يتكلمها بلكنة الغلواز ، ويعرف فرنسا جيدا وأحاط بتاريخها خبرا..
إنه يعرف منطقته ومسقط رأسه بشكل جيد بتضاريسها وأهلها ومناخها ومسؤوليها ومثقفيها..
والأغرب من هذا كله لغته الفرنسية مخارج الحروف لديه ، لغة الجسد ، والتراكيب والجمل السليمة الأصيلة .. يا إلهي..
استعاد الفرنسي توازنه بعد أن كاد يجن ، حين أخبره محمد بأنه درس في فرنسا في الأربعينيات وأنه عاش فيها سنين عددا.

كامل الود
الكاتب: إكس ولد إكس اكرك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق